top of page

التغيير الاجتماعي لا يسقط من السماء — وهو أيضًا لا ينمو وحده

بقلم: د. وردة سعدة


عن التوتر الضروري بين الفعل الحركي من الأسفلوبين قيادة تجرؤ على الفعل من الأعلى

في المجتمعات المنقسمة، المثقلة بالصدمة والخوف، لا يكون التغيير مسارًا طبيعيًا. لا يحدث “عندما ينضج الوقت”، ولا يولد من حسن النوايا وحده. إنه نتاج تفاعل ديناميكي، وأحيانًا متوتر، بين قوتين: حركة مدنية من الأسفل، وقيادة سياسية من الأعلى. عندما تغيب إحداهما — يتعثر التغيير. وعندما تلتقيان — يصبح حتى المستحيل ممكنًا.

المجتمع الإسرائيلي مثال صارخ على ذلك. فهو قائم على متصل من العنف، وذاكرة جماعية مشبعة بالإحساس بالتهديد، وتفضيل عميق للوضع القائم — حتى عندما يكون مدمّرًا. في مثل هذه الواقع، يُنظر في كثير من الأحيان إلى مجرد المطالبة بالمساواة، أو بالسلام، أو بإنهاء السيطرة بالقوة، على أنها خطر.

ولهذا تحديدًا، فالسؤال ليس إن كان التغيير يجب أن يأتي من الأسفل أم من الأعلى — بل كيف يُبنى الربط بينهما.

أوسلو: بين الألم المدني والقرار السياسي

لم تكن عملية أوسلو نزوة قيادة منفصلة عن الواقع. بل استندت إلى سنوات طويلة من العمل المدني: حركات سلام، نقاش فكري، علاقات غير رسمية، ومجتمعات رفضت القبول بحياة من الحرب الدائمة وسلب الحقوق. كان ذلك تغييرًا في الوعي نشأ من الأسفل — ليس بالضرورة كأغلبية، بل كصوت مُصرّ.

لكن هذا التغيير كان سيبقى على الهامش لولا قيادة منحته الشرعية.إسحاق رابين، إلى جانب شخصيات مثل شولاميت ألوني، لم يدفعوا بسياسات فحسب — بل كسروا مسلّمات. أتاحوا لخطاب آخر أن يدخل إلى المركز. قالوا بصوت عالٍ إن السلام ليس ضعفًا، وإن المساواة والحقوق ليست تهديدًا وجوديًا.

ومن المهم قول ذلك بصدق: جرت العملية في ظل واقع من العنف القاسي.المجزرة التي ارتكبها باروخ غولدشتاين بحق مصلّين فلسطينيين في الخليل لم تكن مجرد صدمة — بل زعزعت الثقة بأكملها. بعدها جاءت عمليات تفجير دامية ومروّعة، أصابت مدنيين إسرائيليين أبرياء. (وأنا نفسي كدت أكون ضحية لإحداها). لم يكن الخوف نظريًا — بل جسديًا، يوميًا، وحقيقيًا.

ومع ذلك، وداخل هذا الخوف تحديدًا، اختارت القيادة — ولو لفترة — ألا تتراجع فورًا. هذا الخيار لم يُلغِ الألم، ولم يُخفِ المخاطر. لكنه بعث برسالة إلى الجمهور مفادها أن هناك أفقًا آخر، وأنه يمكن التفكير بشكل مختلف حتى حين يكون الألم حاضرًا.

هذه ليست رومانسية. بل وصف للشجاعة السياسية: القدرة على الفعل ليس رغم الخوف الجماهيري، بل في قلبه.

بيغن: عندما تغيّر القيادة الجمهور — لا العكس

لم يكن مناحيم بيغن نتاج حركة سلام. بل جاء من اليمين الأيديولوجي، من حركة قومية صلبة، ذات ماضٍ سريّ ورؤية عالمية متشددة جدًا. فصول عنيفة ومؤلمة في التاريخ الصهيوني — بما في ذلك أفعال مثيرة للجدل هدفت إلى تشجيع الهجرة اليهودية عبر بث الخوف، كما تَرِد في كتاباته وفي الأبحاث التاريخية — ليست غريبة عن السياق الذي أتى منه.

كما أن اليد القاسية التي استُخدمت في النكبة وما بعدها، وخلال سنوات الحكم العسكري على المواطنين العرب، هي جزء لا يتجزأ من سيرة الدولة — لا انحرافًا هامشيًا.

ومع ذلك، بعد حرب 1973، عندما اختار أنور السادات التوجّه إلى إسرائيل، اختار بيغن أن يصغي. لم يتحرك من داخل إجماع — بل بعكسه. في البداية، كانت نسبة التأييد الشعبي للخطوة منخفضة، بحدود الثلث فقط. وكانت المعارضة شديدة، خاصة داخل معسكره.

هنا يُختبر معنى القيادة: ليس في القدرة على عكس الرأي العام، بل في القدرة على تحريكه.من خلال الثبات، واللغة الأخلاقية، والمصداقية الشخصية، نجح بيغن في إقناع جمهور كامل. وخلال فترة قصيرة، ارتفعت نسبة التأييد الشعبي إلى نحو 80%، بحسب استطلاعات تلك الفترة.

ليس لأن المجتمع الإسرائيلي تغيّر من تلقاء نفسه — بل لأن قيادة ما أوجدت له إمكانية التغيير.

المساواة المدنية كأساس لتغيير مستدام

الدرس من الحالتين واضح: أي تغيير لا يستند إلى المساواة والحقوق — يتفكك. وأي تغيير لا يشمل كل من يعيش هنا — لا يصمد.

حركة مدنية من الأسفل تتحدث عن الشراكة، والمساواة، والعيش المشترك — تُنتج وعيًا.وقيادة مستعدة للاعتراف بكل مواطن ومواطنة على قدم المساواة — تُحوّل هذا الوعي إلى واقع.

من دون ذلك، سيبقى كل مسار سياسي تسوية مؤقتة، وكل مصالحة مجرد هدنة.


الخلاصة: المسؤولية المزدوجة والبيت السياسي الغائب

التغيير لا يقع على عاتق الجمهور وحده، ولا على عاتق القيادة وحدها.على الجمهور أن يُصرّ.وعلى القيادة أن تجرؤ.

وفي مجتمع مثل مجتمعنا — مرّ بالعنف، والخوف، والصدمة، وبظلم مستمر — فإن الربط بين الاثنين ليس ترفًا، بل شرطًا لإمكانية وجود مستقبل مختلف.ليس مثاليًا.ليس بلا ثمن.لكن أكثر إنسانية، وأكثر مساواة، وأكثر قابلية للتحقق.

ومن هنا يبرز سؤال معاصر لا يمكن التهرب منه:إذا كان التغيير في الوعي يولد من الأسفل، لكنه يحتاج إلى تثبيت من الأعلى — فمن يمنحه اليوم بيتًا سياسيًا حقيقيًا؟

تعمل حركات مدنية كثيرة على الأرض من أجل المساواة، والشراكة، والديمقراطية، ومناهضة العنصرية، وحقوق الإنسان، والسلام. لكنها تصطدم مرة بعد مرة بسقف زجاجي: غياب قوة سياسية مستعدة — وقادرة — على ترجمة هذه القيم إلى سياسات ملزمة.

وهنا تتضح أهمية إطار سياسي لا “يدعم” الاحتجاج فحسب، بل ينمو من هذه القيم ذاتها. تسعى مبادرة/حزب كل مواطنيها إلى أن تكون هذا الجسر: بين الفعل من الأسفل والقيادة من الأعلى؛ بين الحركات المدنية وقوة سياسية لا تساوم على المبادئ الأساسية — المساواة المدنية الكاملة، الشراكة العربية-اليهودية، السلام العادل، العدالة الاجتماعية، والفصل الواضح بين الدين والدولة.

ليس بديلًا عن المجتمع المدني — بل امتداده الطبيعي في الساحة التي تُتخذ فيها القرارات.

ree

bottom of page