top of page

التجنيد ليس المشكلة. انعدام المساواة هو المشكلة

بقلم: د. وردة سعدة


في إسرائيل يحبّون الحديث عن «أزمة التحفيز للتجنيد»، لكنهم يتجنبون الاعتراف بالحقيقة البسيطة: هذه ليست أزمة الشباب — بل أزمة الدولة. الشابات والشبان لا يتوقفون عن التجنيد لأنهم لامبالون أو مدلَّلون، بل لأنهم يعيشون في مجتمع يطلب منهم أن يضحّوا بكل شيء، بينما يعجز عن ضمان الحدّ الأدنى من المساواة والمسؤولية والشفافية.

تحوّل التجنيد الإلزامي على مرّ السنين من أداة للتضامن المدني إلى آلية لانعدام مساواة عميق. فهناك من يُطلب منهم أن يدفعوا بأجسادهم ونفوسهم، وهناك من يحصلون على إعفاء شبه تلقائي. وهناك من يفتح لهم الخدمة أبوابًا، بينما يبقى آخرون — حتى بعد خدمة كاملة — مُقصَين أو مُضعَفين أو غير مرئيين.

هذا الفارق ليس صدفة. إنه نتيجة سياسة.

الشباب يرون الواقع بوضوح: قيادة تتحدث باسم الأمن لكنها تعمل وفق حسابات سياسية ضيّقة؛ حروب بلا أفق سياسي؛ استمرار احتلال عنيف للشعب الفلسطيني؛ وجراح أخلاقية، ومسؤولية تُدحرج إلى الأسفل، وامتيازات تبقى في الأعلى. يرون مجتمعًا يُقدّس الخدمة العسكرية، لكنه يعجز عن الاعتراف باضطراب ما بعد الصدمة، وبفقر الجنود المسرّحين، وبالثمن الإنساني لـ«إدارة صراع» لا تنتهي.

بالنسبة لكثير من الشباب — يهودًا وعربًا، نساءً ورجالًا، من المركز والأطراف — فالسؤال ليس هل يساهمون أم لا، بل: لماذا؟ ولمن؟ هل يُطلب منهم الدفاع عن مجتمع ديمقراطي متساوٍ، أم أن يكونوا جدار حماية لنظام يكرّس الإقصاء والعنف والفجوات؟

يحاول الخطاب العام تصوير القضية كسؤال أخلاقي شخصي: «التجنيد أو عدمه». لكن هذا سؤال سياسي بامتياز. طالما أن الخدمة غير متساوية، وطالما أنها غير منفصلة عن سياسات الاحتلال والتمييز والسيطرة العسكرية على سكان مدنيين — فلا يمكن توقّع الثقة.

في هذا الواقع، فإن التمسّك الأعمى بالتجنيد الإلزامي الشامل ليس حلًا، بل هروب من نقاش حقيقي. لقد حان الوقت لطرح السؤال بشجاعة: هل نموذج التجنيد القائم يخدم أمن المجتمع — أم أنه في الأساس يحافظ على نظام سياسي قائم؟

هناك بديل ممكن، وليس «إلغاءً للمسؤولية»، بل توسيعًا لها. الانتقال إلى خدمة مدنية–وطنية واسعة، تطوعية، تحت مظلة مدنية متساوية: عسكرية، تعليمية، طبية، بيئية، مجتمعية. خدمة تعترف بأن الإسهام في المجتمع لا يُقاس بالسلاح فقط، بل أيضًا ببناء الحياة، وبالشفاء، والتعليم، والسلام.

كثير من الدول الديمقراطية أدركت ذلك بالفعل. انتقلت من خدمة إلزامية قسرية إلى خدمة قائمة على الاختيار، انطلاقًا من فهم أن الخدمة الحقيقية تقوم على الرضا والثقة والإحساس بالعدالة — لا على الإكراه والعقوبات.

من يخشى أن تُضعف الخدمة الاختيارية المجتمع الإسرائيلي يتجاهل حقيقة أنه يضعف أصلًا من الداخل. إن انعدام المساواة، والإقصاء، والتهكّم هي التهديد الحقيقي للتماسك الاجتماعي — لا الشباب الذين يطرحون أسئلة صعبة.

وماذا أعني بالتهكّم هنا؟التهكّم في هذه الحالة هو الفجوة بين الأقوال والأفعال.

دولة تتحدث عن «قيمة الخدمة» و«تقاسم العبء»، لكنها في الواقع: تُبقي إعفاءات انتقائية، تكافئ المقرّبين، وتتجاهل المتضررين من الخدمة (اضطراب ما بعد الصدمة، الفقر، التسرب). الشباب يلاحظون هذه الفجوة — ويفقدون الثقة. استخدامٌ بلاغي للشباب كعملة سياسية: الجنود و«التضحية» يُذكرون في المراسم والخطابات، لكن في لحظة الحقيقة لا توجد مسؤولية شخصية لصنّاع القرار، ولا أفق سياسي، ولا تحمّل لمسؤولية الأخطاء. هذا يخلق شعورًا بأن «هم يتحدثون عنا — لا معنا».

نزع الشرعية عن النقد الأخلاقي: الشاب الذي يطرح أسئلة يُوصم فورًا بأنه «ضعيف»، «متهرّب»، «خائن». الرسالة الضمنية: لا يهمّ ما تشعر به أو تفكّر فيه — اصمت وخَدِم! هذا تهكّم على الديمقراطية ذاتها. وعدٌ مُضمَر لا يُنفَّذ. السردية القديمة قالت: اخدم — وستنتمي، وستتقدّم، وستكون محميًا. الواقع يقول غير ذلك لكثيرين: الأطراف تبقى أطرافًا، العرب يبقون مُقصَين، النساء يتعرّضن للأذى ولا يحصلن على حماية، والمقاتلون المسرّحون يُتركون وحدهم. وعندما ينهار الوعد — يولد التهكّم.

إذا أرادت الدولة أن يخدم شبابها، فعليها أولًا أن تكون جديرة بخدمتهم: مساواة في الحقوق، مساواة في الواجبات، مسؤولية حكومية، وأفق سياسي.

من دون ذلك - لن تنجح أية حملة لتحفيز التجنيد.

ree

bottom of page